مركّبات الطريق الروحانيّ

من محادثة تعليميّة قدّمتها لاما دفورا – هلا في المركز الروحاني في العربة، 2016

لماذا نحن بحاجة إلى طريق روحانيّ؟

في كلّ واحد منّا توجد نواة من القداسة، نواة من النقاء، طاقة كامنة للنقاء المطلق، وكلّ واحد منا يمكنه أن يكتشفه وأن يطوّره لأبعاد لا تُصدَّق.

ونحن نستطيع حقًّا أن نتحوّل إلى كائنات مقدّسة لأنّ هذه هي الطبيعة، هذه البذرة موجودة فينا، عميقة في قلبنا.   ونحن نقول بأنّ هذه هي الهدف المطلق لكلّ تدريباتنا، أنّ نمتزج مع هذه الطبيعة النقيّة وأن نكون وأن نعيش داخل هذه القدسيّة.

والقدسيّة تشمل هذا الحبّ غير المشروط والتعاطف الذي يشمل كلّ مخلوق. أحبّ لغيرك ما تحبّه لنفسك بالمعنى الأسمى لهذه الكلمات.

في الطريق الذي تقترحه الطرق الروحانيّة يشمل البوذيّة نحن نعمل بشكل منهجيّ على تطوير الصفات السامية ، تنقية وعينا وتطوير الحبّ والتعاطف من أجل أن نصل إلى هذا المكان المقدّس.

كلّنا مشبّعون بالشهوات. نحن نعيش في عالم الشهوات، والشهوات هي التي تحرّكنا إلى كلّ مكان. نحن نريد أن نهرب من الألم وتحقيق السعادة.

ولكن في الوضع العادي، على الرغم من كلّ ما نقوم به، مع ذلك نجد أنسنا في عالم من المعاناة. وإذا ما وجدنا شيئًا ما جيّدا، فإنَّ هذا الشيء يُسرَق منّا أو أنّه يمضي أو يحدث شيء ما ونحن لا نعرف كيف نتمسّك بالسعادة. فهو لا يستطيع أن يمكث زمنا طويلا.

ونحن نبقى مع الإحباط وعدم الرضا الذي يكون عميقا عمليًا.

وعليه، الشخص الموجود في مثل هذا الطريق يبحث عن إمكانيّة تقليص الشهوة في حياته ويهرب من الحالات التي تثير التشوّق والاشتهاء، لأنّها قويّان أكثر من اللازم وهو لا يريد أن مواجهتهما. وهو يريد أن يطوّر الصفات الأكثر سموًّا.

قلنا إذن بأنّ الطبيعة النقيّة موجودة في أساسنا ولكن من الصعب علينا أن نلامسها.   ولكي نتصل معها علينا أن نكوّن حيّزا في وعينا.

وهي في الوضع العاديّ مليئة بالشروط، بالمعتقدات، بالأشواق، والتأجيلات التي مصدرها الـ “سمسرة בסמסרה “، انعدام التفاهمات وهي مثقلة بكل هذه الأفكار، بأنّه لا يوجد مكان للقاء شيء ما أكثر سموًّا.

إذن لكي نفتح هذا الحيّز في عقلنا يجب فكّ القبضات التي تكبحنا وتقيّدنا ولا تمكّننا من تحقيق هذه القوة الكامنة فينا. لأنّها تحفظنا داخل دائرة تحفظ انعدام رضانا المزمن ومعاناتنا.

ثلاثة مركّبات للطريق الروحانيّ

في كلّ طريق روحانيّ لائق توجد ثلاثة عوامل أساسيّة علينا أن ننمّيها إلى اقصى درجة من أجل توسيع هذا الحيّز وتحضير أنفسنا لكي يعمل التدريب المتقدّم لصالحنا.   وهذه العوامل تسمّى الطرق الأساسيّة الثلاثة أو الأفكار الرئيسيّة الثلاثة  وهذه الطرق هي: 

1. التزهُّد (نبذ المادّة والانتفال إلى الروحانيّات).
2. التعاطف (تعاطف القلب المحبّ) (bodhicitta)
3. الفهم الصحيح لواقعنا.

إذن هذه هي التصرُّفات التي يجب استثمار الجهود غير الصغيرة فيها، وتنميتها في القلب حتى نصل بها إلى درجة الكمال من أجل أن نؤهّل أنفسنا لنكون أداة لائقة للتدرُّب المتقدّم أكثر.

التزهُّد

الطريق الأوّل، التزهّد باللغة التبتيّة هو (Ngen jung) وهي تعني “خروج مؤكّد”، أنّنا نخرج بكل تأكيد، تمامًا من توجُّهنا المحدَّد والعاديّ والذي لا يدرك، والمشغول بذاته، وفيه الكثير من فهم  الأمور التي تظهر في حياتنا، دون أن نفهم طبيعة هذه الأمور..

أساس التزهّد هو التخلّص من هذه السيطرة. وهذا لا يعني بالذات التنازل عن الأمور التي في حياتنا لأنّ هذه تظهر أو لا تظهر بما يتناسب مع الكارما خاصتنا ولكن ما يمكننا فعله هو تحرير سيطرة هذه الأمور من الفكرة بأنّها هي التي تسبب لي السعادة، بأيّ شكل كان، كهذا أو كذاك .

إذن التزهّد لا يعني التنازل عن البهجة أو عن المتعة من أجل تحقيق السعادة. هذا ليس ما نريد فعله. ما نريد فعله هو التنازل عن التوقّعات غير الواقعيّة من الأمور التي تتوفّر لنا في حياتنا. عندما نتوقع أن تتحقق سعادتنا من هذه الأمور.

لا تتوفّر فيها هذه الصفة، لا تتوفّر في أيّ شيء خارجيّ ما يمكنه أن يحقّق لنا السعادة. لذا هذا التوجّه هو ما نطلب تحريره. هذا هو التزهّد –  التنازل عن التوجُّه الذي لا يخدمنا.

التزهّد الحقيقيّ مبنيّ أيْضًا على الفهم، بأنّ الملذّات العاديّة للحياة الماديّة هي من الدرجة الثانية وحتى أحسنها وحتى أروعها هي من الدرجة الثانية.

وهي غير متشابهة، بحجم البهجة الغريبة الشاذّة  التي نصطدم بها عندما نحقّق أعمق طاقة كامنة للسعادة المستقرّة التي قد تدوم طويلًا سعادة التنوير.

ما يجعل التزهّد ممكنًا هو أن نفهم أنّ الشيء الذي يستولي علينا ومن الصعب علينا التحرّر منه هو ليس القدرة على المقارنة بالشيء المتوفّر لنا إذا تنازلنا عن هذا الاستيلاء/ السيطرة

نحن نطمح في إيجاد نوع من السعادة غير المتأثّرة بظروف خارجيّة، وهي غير مرتبطة بظروف خارجيّة إطلاقًا.

يصفها الدلاي لاما كما يلي: هذا مثلما تغوص عشرة أمتار تحت سطح المحيط. في السطح توجد أمواج. السعادة التي نبحث عنها يشبه هذا السكون والهدوء الموجود على عمق عشرة أمتار تحت سطح الماء الأمواج لا تؤثّر عليه.

هذا هو ما نبحث عنه.

وماذا عن الآخرين؟

ولكن ما زالت هناك مشكلة، لأنّه عندما نطوّر تفكيرا من هذا النوع بأنّني قد سئمت هذه الحالة، المزمنة، من انعدام الرضا ومن السعادة التي من الدرجة الثانية أو الرابعة أو الأخيرة وانا أريد شيئًا آخر ما زال التفكير هو “أنا”، “أنا” عليّ، “أنا”.

سئمت “أنا هذا، أنا” أريد هذا. ما زال التفكير حولي (عنّي). وهذا بدون أن نقصد، يكوّن نوعًا جديدًا من القيود، ليس أقلّ حجمًا من القيد السابق الذي وصفناه للسيطرة (الاستيلاء). لأنّ هذا نوع من التفكير قصير المدى، مدى قصير جِدًّا، علينا.

من بين المخلوقات الموجودة في العالم نحن مهتمّون بأنفسنا، قبل كلّ شيء بأنفسنا. إذن نحن مسبقًا نقيّد القدرة الكامنة للسعادة لتصبح شيئًا قليل الأهمّيّة في عالمنا. إنسان واحد مقابل عدد لا نهائي من المخلوقات.

إذن إذا كان هذا هو توجّهنا فإنَّنا نحرم أنفسنا الانفتاح الكبير على السعادة السامية التي لن تتحقق لأنّنا مسبقا حبسنا أنفسنا في مكان صغير كهذا كما أنّها تسبب للقلب أن ينغلق. عندما ينحصر التفكير علينا فقط طيلة الوقت قلبنا ينغلق.

وهدفنا هنا هو أن ينفتح القلب، أن ينفتح. بدون هذا لن يتحقق الهدف السامي الذي نتمناه. هذا لن يحدث.

ربّما أنّنا نقول لأنفسنا بشكل واعٍ ٍ: أنا معنيّ بنفسي فقط، ومعظم الناس لا يقولون ذلك لأنفسهم. ولكن، عمليًّا، إذا اختبروا أفكارهم وأعمالهم فإنَّهم سيكونون مشغولين بـ – بي – بي بما هو جيّد لي، من هم أصدقائي، عائلتي، بيتي، دخلي، بي- بي- بي- بي- بي- بي. هذا يغلق قلبنا.

ونحن نقول بأنّنا ما دمنا مع تفكير كهذا فإنَّنا إلى الأبد لن نستطيع فتح قلبنا ولذلك للأبد لن نستطيع تحقيق السعادة السامية التي نتحدّث عنها. والطريق الوحيد لتحقيقها هي توسيع المدى فتح هذا الحبس الذي صنعناه بأيدينا وحبسنا أنفسنا بداخله، عندما نركّز تفكيرنا على أنفسنا.

جزء من الطريقة هو تطوير تفكير موجَّه نحو العالم المحيط بنا وليس نحو أنفسنا فقط. هذا يعني التخلُّص من توجّه توقير الذات، الذي يعشّش بداخلنا، ونحن معتادون عليه. عمليًّا جئنا إلى العالم وهو معنا وواصلنا رعايته منذ الولادة بتشجيع من بيئتنا.

هذا هو ما علينا أن نتعلم التخلُّص منه. وهذا ليس سهلًا لأنّ ذلك مترسّخ جِدًّا بداخلنا حتى مستوى الغرائز.

إذا نظرنا التعليم الذي أعطونا إياه معلمون روحانيّون كبيرون، كبيرون حقًّا، فهم جميعا يقولون بأنّ هذا التوجُّه توجُّه توقير الذات عادة العقل هذه لتوقير الذات هي بمثابة خنق روحانيّ، إنّها تسبّب الاختناق الروحاني.

وإذا أردنا حقًّا تحقيق طاقتنا الكامنة العالية وعدم تحقيق الرضا / القناعة في هذه الحياة فقط بل رضا أسمى علينا أن نكرّس أنفسنا بكل قوتنا بشكل كامل قدر استطاعتنا من أجل رفاهية الغير/ الآخر

وهذه هي الطريق الوحيدة لفتح قلبنا. هذه هي الطريق الوحيدة لتحقيق السعادة بالمعنى العميق الذي تحدّثنا عنه والذي نتوق إليه ونتمنى تحقيقه. 

نقول بأنّنا تعلمنا قليلا، خطونا قليلا على الطريق الروحانيّ وربّما أنّنا طوّرنا نوعا من التخلُّص من السيطرة وتزهُّدًا وما شابه، هذا كوَّن لدينا حيّزا صغيرًا. وهو قد حرّرنا إلى حدٍّ معيّن، وكوّن لدينا بعض التحرُّر والقليل من الطاقة والتي هي إيجابيّة.

علينا الآن أن نتّخذ قرارًا عميقًا لأن نرسل هذه السعادة إلى الآخرين، أن نبحث عن طرق لمنحها للآخرين أيْضًا.

وكما قلنا، بناء على التعليم البوذيّ لن نكون راضين تمامًا بدون أن نفتح هذا التوجه الذي يطلب أنّ يعمل من أجل الغير بكل قدرتنا. لا نعمل بدون هدف، لا نريد أن نعطيهم الفضلات بل الأفضل والأحسن مما عندنا أو فينا. بدون هذا نبقى ضجرين وربما نعيش حياة بدون معنى والأهمّ أنّنا سنكون وحيدين.

نقتبس من “البانتشن لاما الأوّل” من نصّ إرشاد للاما (لاما هو معلّم روحانيّ)

توقير ذاتي فقط – منفذ لكلّ ضائقة
توقير كلّ الناس (أمهاتي)
أساس كلّ فضل .

 هذا يعني أنّ كلّ المخلوقات، الآخرون الذين اهتمّ بهم كما أهتمّ بأمّي.
وهو يتابع في توجهه إلى اللاما:

 باركني، إذن،
لكي أتعلّم تحويل هذا التدريب العميق
 لتبديل ذاتي بالغير
إلى صميم قلب تدريبي الروحانيّ  

صميم قلب تدريبي الروحانيّ. هذا ما يقوله “البانتشن لاما” وما يقوله الكثير من المعلِّمين الآخرين. يمكنكم أن تذهبوا إلى هناك وتبحثوا عن مثل هذه الاقتباسات. نحن نوردها بكثرة.

ولكنكم لستم ملزمين بأن تذهبوا إلى هناك. يكفيكم أن تنظروا إلى تجربتكم: إذا كانت لكم لحظات في الحياة فيها كرّستم أنفسكم من أجل الغير وفحصتم بعد ذلك عندما تفرَّغتم. كيف شعرتم؟

مثال ربّما أنّه معروف لكم طفل إذا كان لنا. عندما يكون الطفل صغيرًا له حاجاته وهذه لا تترك له كثيرًا من الخيارات. علينا أن نتفرّغ له وألّا نفكّر كثيرًا في أنفسنا. ولكن بنظرة إلى الوراء، يمر وقت ما ونحن نرى أنّ هذه الفترة كانت الأكثر سعادة في حياتنا مع أنّ الطفل بكى فيها أكثر من غيرها. إذن نحن نستطيع أن نتحقّق من ذلك بأنفسنا.

إذا نظرنا كيف عاش المعلمون الكبار كيف عاش بوذا شكياموني. ولد بوذا لحياة الملوك، كأمير مع كلّ ما هو متوفّر للأمراء وقرر التنازل عن هذا لكي يجد ما يفيد الآخرين.

وهناك قصص كثيرة كهذه. الكثير من المعلمين البوذيّين الكبار كانوا أمراء مصيرهم أن يكونوا ملوكًا . هذا ينطبق على ماستر شانتيدفه، مع نجارجونا. هناك الكثير من النماذج وهذا هو ما فعلوه.

ومن المثير للاهتمام، لماذا كان يجب أن يكون ابن ملك ليصل لذلك؟ مع كلّ ما تقدّمه الملكيّة، مع كلّ الرفاهة والملذّات وترف العيش في القصر في الهند القديمة. كانت هذه ملذات كبيرة وترف ورخاء عظيم والتنازل عنها يتطلب طاقة أعمق وأهمّ بكثير.

التفسير ربّما يكمن في كون الولد الذي تربّى في البلاط الملكي وأُعدّ ليكون ولي العهد ربّوه منذ البداية مع النظر إليه كولي عهد. منذ ذلك انحنوا له وقد نما وترعرع مع كثير من الثقة بالنفس.

تعلمون بدون شكّ بأنّ الناس يقولون في كثير من المرّات: أنا لا أعلم إذا كنت أستطيع القيام بهذا، إذا كنت قادرًا، إذا كنت قادرة على هذا. ولكن كلنا عمليًّا أولاد ملك، انظروا أين ولدنا! يتوفّر لنا كلّ ما نحتاج إليه.    

وهؤلاء الأشخاص أخذوا كلّ ما كان لهم ووجّهوه إلى المكان الذي فيه بمقدورهم الحصول على البركة لعدد كبير من الأشخاص الآخرين..

واذا نظرنا إلى أنفسنا بالمقارنة مع كيف تعيش معظم الكائنات في العالم فنحن نعيش في عالم خرافيّ تمامًا، في فانتازيا (حلم). وعلى الرغم من أنّنا كلّنا ولدنا لواقع كأبناء ملوك ونحن نتقلّص داخل “الأنا” الصغير خاصتنا وداخل التفكير بالذات وإلخ.

كما قلنا، إذا كنا نبحث عن إثباتات على أنّ توقير الذات هو أصل كلّ المصائب وتوقير الآخرين هي النافذة لكلّ خصلة حميدة، ونحن لسنا بحاجة إلى أن نبحث في أماكن بعيدة يمكننا أن ننظر إلى حياتنا إلى ممارساتنا وتجاربنا.

رأينا كيف أنّ التمسُّك بهُراء العالم بالأمور المادّيّة يحول بيننا وبين تجربة السعادة الأكثر سموًّا والرضا الأكثر عمقًا الذي نبحث عنه.

قلنا بأنّنا بحاجة إلى فتح ه ا الحيّز في وعينا، وإلى تحرير هذه العادة الفظيعة وهي كوننا متمسّكين بملذّات العالم.

بنفس الدرجة نحن متمسّكون بشكل استحواذيّ بأنفسنا وبسعادتنا الشخصيّة وربما بسعادة العائلة أيْضًا، أحْيانًا. نحن ملزمون بالتخلُّص من هذا التمسّك إذا كنا حقًّا نريد تحقيق السعادة السامية ومساعدة أعزّائنا على الوصول إلى هناك.

نحن لا نستطيع مساعدتهم إذا ما مشينا نحن أنفسنا في الطريق إلى هناك لأنّهم هم أنفسهم  مسجونون في نفس المكان.

بودهيتشيتا الطموح إلى التنوير

إذن نحن نتحدّث هنا عن تحفيز (دافعيّة) عالٍ جِدًّا نحتاج إليها من أجل أن ننجح في الطريق الروحانيّ والدافعيّة إليه نسمّيها  بودهيتشيتا . (bodhichitta).

البودهيتشيتا هو دافع لا يمكن السيطرة عليه. حافز لا يمكننا أن نسيطر عليه، لأنّه عميق جِدًّا، الحافز للوصول إلى التنوير أي يكون كلّ ما نفعله يقتصر على كل ما يوصلنا إلى التنوير، من منطلق التفكير بأن نحسن إلى المخلوقات، هذا هو التفكير الذي يدفعنا.       

وهذا ليس “أنا” صغير فقط أو مع عدد قليل من الأشخاص من حولي، بل الحديث عن الكون كلّه.

هذا الطموح يوفّر لنا ريحًا خلفيّة شديدة تدفع بنفس الاتّجاه. لا شيء يستطيع الوقوف في طريقها. عندما نقرر أن نكرّس أنفسنا بهذا الشكل للمخلوقات بواسطة عمل كلّ ما هو ممكن للوصول إلى التنوير عندها كلّ الأمور تكون على ما يرام.

إذا انحرفنا بالتركيز من على أنفسنا إلى الآخر فإنَّ مشاكلنا تتقزّم في هذه اللحظة.

مجرّد الاستعداد لأن أكون “أنا مصدر بركة للمخلوقات” يجنّد الطاقات نحونا التي تبدأ بتقزيم وتذويب كلّ الصعاب التي تعترض طريقنا. الأمور تكون على ما يرام. هذا الاستعداد مقدّس جِدًّا وهو كبير جِدًّا وعظيم جِدًّا، وإذا بدأنا نتدرّب عليه فإنَّ الحياة تسير إلى حيث نريد أن نصل. الحياة تسير معنا. كلّ ما يظهر الآن كعقبات يتحوّل فجأة إلى فرصة.

هذه إذن هي البودهيتشيتا. الرغبة في أن أُكرِّس نفسي من أجل رفاهية الآخر. طاقة جبّارة بشكل خاصّ تسبّب لنا كلّ ما هو طيّب في العالم، كلّ ما نريده فعلًا وفوقه الكثير أيْضًا، أكثر مما يمكننا أن نحلم به.

عندما يكون القلب ممتلئًا بالبودهيتشيتا:  

– كلّ الأفكار عن توقير الذات، تخجل من البودهيتشيتا. تنحني وتختبئ.
– نحن نجذب إلينا كلّ الظروف والشروط الداعمة لكي تدعمنا في الطريق.

الدلاي لاما، يتحدّث عن الأنانيّة. يقول: إذا أردتم أن تكونوا أنانيّين كونوا أنانيين مع حكمة. تمام؟

تطوير البودهيتشيتا، هذا هو الرغبة في الإحسان إلى جميع المخلوقات، وليس مجرد رغبة في الإحسان، بل أن ننقل أنفسنا إلى مكان منه يمكننا أن نحسن إلى كلّ المخلوقات، وليس أن تكون مجرد أمنية فقط بل “أن أعمل ما يجب أن أقوم به من أجل أحمل نفسي إلى هذا المكان”.

هذا هو أيْضًا الشيء الأكثر أنانيّة الذي يمكننا القيام به من أجل أنفسنا، لأنّ هذا يجنّد نحونا بالضبط كلّ الأمور التي نحلم بها ونتوق إليها ونشكو من نقصها. إذن هذا هو نوع من الأنانيّة ولكنها أنانيّة حكيمة جِدًّا. إنّها أنانيّة وهي في الوقت نفسه ليست أنانيّة فعلًا، وتجلب لنا كلّ السعادة التي نبغيها.

وإذا كنا نريد أن نكون الأكثر سعادة في العالم، عندها علينا نكرّس أنفسنا بكل من صميم قلبنا، لهذه الأمنية أن نكون بركة للمخلوقات وللعمل الذي ينقلنا إلى هذا المكان.

أي أنّ البودهيتشيتا ليس شيئًا يجب الإيمان به، وبكل تأكيد ليس إيمانًا أعمى بما قيل هنا. يمكننا إجراء تجارب على أنفسنا ونفحص.

إذا اصطدمنا بوضع فيه نواجه مشاكل كبيرة، عظيمة، ويبدو أنّه لا توجد لنا سيطرة على هذه الأمور، وقد جاءتنا ولا ندري من أين، من الحكومة، من المخلوقات، من السنّ. عندما نصطدم بعقبات كبيرة، من المفضّل أن نجري التجربة على أنفسنا.

في المكان الذي نشعر فيه وكأن جبلًا يربض على جسمنا يمكن أن نعمل shift صغيرًا. أن نأخذ القليل من هذا الحيّز الذي كوّناه في عقلنا بواسطة التزهّد، وأن نعمل shift صغيرًا وأن نوجّه انتباهنا إلى مكان آخر إلى المخلوقات ونرى ماذا سيحدث.

ولكن علينا أن نقوم بهذا من أعماق قلوبنا من صميم قلوبنا. لأنّه كما قلنا البودهيتشيتا هو ليس مجرد رغبة في المساعدة إنّه مكان نحن بكليتنا مجنّدون لأن نكون حقًّا البركة للمخلوقات.

من المفضّل أن نجرب إذا كان بإمكاننا أن نحقق هذا الشعور ولو لوقت قليل ولو لبضع دقائق في اليوم وهذا كثير!

يمكننا أن نقوم بهذا وأن نرى إذا حدث الـ shift. هل هذه العقبات الكبيرة التي تبدو كالجبل الذي يربض على صدرنا بدأ يتحول إلى تلّة ثمّ يستوي.

كلّ هذا العبء الذي يربض على صدرنا، على كتفينا، الذي نتج عن انشغالنا بأنفسنا ، عن توقير الذات، يتلاشى.

كفى، لم نعد بحاجة إلى القلق على أنفسنا، علينا فقط أن نقلق للآخرين كلّهم. هذا كلّ شيء. ما يتبقّى يكون على ما يرام بنفسه. لا عبء بعد ذلك. هذا بسيط. إنّه يظهر وكأنّه صعب ومعقّد لأنّنا غير معتادين على أن نكون هناك ولكنه من أبسط الأمور.

إذن عندما تكون لدينا بعض اللحظات كهذه للعقل وللبودهيتشيتا، هذا هو تذوّق صغير من عقل التوير، من هذا العقل الذي نتحدّث عنه للسعادة الكاملة.

ونحن، كما قلنا، نكتشف كنوزًا لم نحلم بوجودها. نحن نخرج قليلا، نطل قليلا من هذا السجن الذي حبسنا فيه أنفسنا، سجن التمسّك بالذات وسجن توقير الذات.

هناك أيْضًا توجّه آخر غير صحيح يتعلّق بالبودهيتشيتا بشكل عاطفيّ. نقول: آه هذا، هذا حبّ كبير لشخص ما، كم كنا نرغب أن يكونوا كلهم سعداء، نحن لا نستطيع أن نتحمل كونهم يعانون.

عندها نحن ننظر إلى معاناة الناس من حولنا وهي تبدو كبيرة جِدًّا إذن كيف نستطيع أن نخلّص هؤلاء الآخرين من هذه المعاناة كلّها؟

وبدلَا من أن نبدأ العمل من أجل الكائنات نشعر بأنّنا صغارا ونصبح مهمومين وهذا الحبّ يبدأ يثقل علينا لأنّنا لا نعرف كيف نحقق ذلك

وذلك لأنّنا لا نفهم فكرة البودهيتشيتا. البودهيتشيتا ليس نوع من الحبّ العاطفيّ الذي يقتصر على حبّ الكائنات. البودهيتشيتا لا توجد له أيّ علاقة بهذه العاطفة غير المريحة الذي يعاني من اليأس من المعاناة التي نواجهها في عالمنا. البودهيتشيتا

البودهيتشيتا هو تطرّق هادئ جِدًّا تطرق قلب مفتوح بدون علاقة بالظروف. لا يهمّنا ما يحدث من حولنا القلب يبقى مفتوحًا

هذا صعب ولكنه يمكننا التدرّب على ذلك ومهما استطعنا يبقى القلب مفتوحًا.

توجّه آخر فيه يخطئ فيه الناس بما يتعلّق بالبودهيتشيتا وهو القائل: ما دمت لا أكون كيانا متنوّرا أنا لا أستطيع حقًّا أن أساعد الكائنات كما كنت أرغب في مساعدتهم. لذا عليهم أن ينتظروا قليلا وأنا سأعمل حتى أصل إلى التنوير وعندها سأقوم بمساعدتهم.

هذا خطأ فكريّ كبير لأنّنا لا نستطيع الوصول التي التنوير بدون تقديم المساعدة لهم الآن، بدون أن نقوم بكل قوّتنا البدنية والعقلية من أجل الكائنات.

ليس هذا فحسب، بل إن هذا الشيء يجمّد تفكيرنا. هذا تفكير تتجمّد ثانية مع اعتقاد مقيِّد غير صحيح أيْضًا ويحول بيننا وبين أن نبدأ.

نقول: أنا سأتركهم، أريد أن أصل إلى التنوير أولًا، لأنّ الموت قد يأتي كلّ لحظة. شريان ما قد ينفجر في الدماغ وضاعت الفرصة. لذلك لا مكان للانتظار لتحقيق حبنا للآخر، لا مكان للانتظار.

إذن في الوقت نفسه نحن نتعلم ونتدرّب على تطوير الحبّ، التعاطف والحكمة وإلخ نحن بالموازاة طيلة الوقت كيف نحسن إلى الآخرين.

كيف نكون بركة للآخر بأكبر شكل ممكن نستطيعه.

تطوير وجهة نظر صحيحة

بعد أن طوّرنا تزهُّدًا وتعاطفًا نحو معاناة بقية الكائنات يمكن تحسين قدرتنا على مساعدة الناس بشكل حقيقيّ ومتطرف. وذلك مع تطوير الحكمة التي تدرك من أين تأتي الظواهر غير المرغوبة (والمرغوبة أيْضًا) إلى عالمنا وإلى حياتنا.

معنى وجهة نظر صحيحة هو أن نفهم:

لماذا توجد معاناة ولماذا توجد سعادة في عالمي؟
ما هي أسباب المعاناة وما هي أسباب السعادة؟
كيف يمكننا أن نبدأ التحكُّم بواقعنا بدلا من أن يتحكّم هو بنا؟

ينقلنا هذا إلى الحاجة إلى أن نطوّر، ما سميناه، وجهة النظر الصحيحة. وجهة النظر التي تفهم بشكل أعمق طبيعة واقعنا.

وقلنا بأنّه بشكل عاديّ يوجد لنا تمسّك قويّ بما نسميه “الأنا”. الأنا موجود. ومع ذلك لا توجد مشكلة، المشكلة هي التمسُّك الشديد بـ”الأنا”.

الأنا يوجّهنا طيلة الوقت نحو ما يجذبنا ويدفعنا للهرب مما ينفرنا. والسبب الذي يجعلنا ننجذب إلى شيء وننفر من شيء آخر هو الاعتقاد بهذه الأشياء كما تظهر أمامنا.

إذا كان الشيء جذابًا نعتقد بأنّه جذّاب بحد ذاته وبأنّني ملزمة بالذهاب إلى هناك والحصول عليه لنفسي. أو إذا كان الشيء مكروهًا عندي فهو مكروه بحدّ ذاته ولذلك من المحبّذ أن أهرب منه إلى الجهة الأخرى وإلّا يصيبني الأذى منه.

عندنا جمود معيّن جمود قوي جِدًّا حول طبيعة الظواهر المحيطة بنا من دون أن نفحص ولو قليلا ماهيتها. ومن هذه الناحية نحن عبيد لمفاهيمنا هذه. 

هذا التمسُّك كامن في الوجود الذاتي للظواهر، بالاعتقاد بأنّها تأتي بأيّ طريقة من خارج ذاتي ولا علاقة لها بي ولذلك عليّ أن أقرّب منّي شيئًا وأبعد عنّي شيئًا آخر. هذا يجعلنا عبيدا لنمط معيّن من السلوك. نقول بأنّه يواصل إنتاج المزيد من المصائب لنا، ويدخلنا في دائرة سحرية / مغلقة من المعاناة.

وقلنا بأنّه ليس من السهل التخلُّص من هذا الاستبداد للأنا. هذا ليس شيئًا صغيرا. نحن مشبّعون به حتى النخاع.

ولكنّنا نستطيع التخلُّص قليلًا من مستوياته الأكثر خشونة، المستويات الأكثر وضوحًا لنا.  ما زالت الأمور تظهر وكأنّها تأتينا من الخارج، من خارجنا. وقتا طويلا تظهر على هذا الشكل. ولكننا نستطيع ولو قليلا التحرر من تمسّكنا القوي بالاعتقاد بأنّها كما تظهر لنا.

من طوَّروا فهمًا عميقًا للواقع ما زالوا يرون الأمور تظهر مثل مدير مثير للغضب، إنسان محبوب، مأكولات شهيّة، ضجيج يضايقنا ولكنّهم لا يصدّقون “القصّة” التي وراء ذلك.

في المرحلة الأولى نحن نريد أن نكون نوعا ما مثل ذلك المدرّب المتقدّم. نحن ما زلنا نرى الأمور كما تظهر ولكننا متشككين نوعا ما بالنسبة إلى ماهيتها العميقة.

في نهاية الأمر عندما يكون عقلنا نقيًّا بما فيه الكفاية تظهر لنا الأمور بشكل نقيّ. وهي لا تظهر بشكل يفعِّلنا يعتبر محفِّزًا للمشاعر من هذا النوع أو ذاك. ونحن نفهمها أكثر. وهذا يكون حرّيّة حقيقيّة.

وهذا وضع إدراك بأنّ كلّ واحد منّا يمكنه أن يحصل عليه مع قليل من التدريب. نحن غير ملزمين بالانتظار حتى يحدث ذلك لوحده، لأنّ ذلك يكون نتيجة لتمارين تدريبات كثيرة. كما قلنا إذا بدأنا نتحرر شيئًا فشيئا من هذه المفاهيم الصلبة التي تنسب ميزة حسّيّة جِدًّا وصلبة وملموسة وذاتية للأمور فنكون قد بدأنا نتذوق القليل من الحرّيّة.

احذروا المفاهيم العدميّة

وهناك شيء يجب الانتباه إليه: في التعليم البوذيّ يحذّروننا من أخذ هذا التوجّه بعيدًا أكثر مما ينبغي.

لأنّه إذا فرضنا أنّنا نقول: هذا الشخص يبدو لي غير لطيف وهو يتكلم بشكل غير لطيف ويحمل أفكارا متطرّفة وعليّ ألّا أكون مع هذا الشخص، عندها يمكن أن أكون متمسّكة بقوّة كبيرة بهذا المفهوم الذي لي عن هذا الشخص تدفعني لأن أكرهه وأبتعد عنه.

وعندها الخطر هو إذا أستمع إلى تعليم مثل هنا عندها يمكن أن نقول: ربّما في الحقيقة أنّه ليس كما فكرت وربّما أنّه أصلًا ليس هناك!

ونحن نقول بأنّ هذا غير صحيخ أيْضًا.  
هذا المفهوم نسمّيه مفهوما عدميًّا (نِهِليستيًّا)، نظريّة تنفي وجود الأشياء ولذلك توجد لها نظرة غير صحيحة للواقع. اعتقاد بأنّه لا يوجد هناك شيء بالمرة ونحن لا نحتاج إلى الردّ عليها لأنّها غير موجودة هناك. “أجلس وأصمت ولا افعل شيئًا لأنّه غير موجود هناك”  

نحن نقول بأنّ هذا خطأ أيْضًا وهو أكبر من الخطأ الأوّل التي وصغناه ذلك القائل بأنّ للأشياء وجود بحدّ ذاتها..

إذن كيف نخرج من هذه المتاهة؟

نقول من الجهة الأولى: الأمور ليست كما تظهر أمامنا، ومن الجهة الأخرى نقول الذهاب إلى الجهة الأخرى ونقول: إنّها ليست هناك، وهذا ليس أقل خطورة ولن يقودنا إلى السعادة بل يوقعنا بقوّة. إذن كيف الخروج من هذا المأزق؟

في التعليم البوذيّ تركيز كبير على ما يسمّى “الوجود المعلّق“. نحن ننظر إلى الظواهر كما تظهر أمامنا ونحن نقول: حسنًا، هذا ظهر أمامي هكذا، كيف حدث أن ظهر هذا أمامي هكذا؟

على سبيل المثال عندما أرى هذه الزهرة، يمكنان تراودني فكرة فأقول: واو!! ما أجمل هذه الزهرة، يا لها من رائحة، ولون! وهذه أنا أريد أن أضعها عندي في المزهريّة،  لكيلا ابقى بدون ورود في المزهريّة…

هذه طريقة واحدة تتمسّك بالزهرة، “من المؤكّد أنّني لن أعطيها لأيّ شخص آخر.  إنّها لي. ومن أخذ زهرتي؟ هذا توجّه واحد.

التوجّه الآخر يقول: هذه ليست زهرة في الحقيقة، إنّما يخيّل إليّ بأنّ هذه زهرة.

نحن لا نريد هذا ولا ذاك. بدلًا من ذلك نحن نقول في هذا المثال: هذه الزهرة هناك من ربّاها في دفيئته. هناك من زرعها وسقاها واعتنى بها ووفر لها كلّ الظروف الصحيحة لنموّها، وهناك من قطفها ومن جمعها في باقة وآخر أحضرها إلى الحانوت وفي الحانوت ملزمون بدفع حساب الكهرباء، وأجرة المحلّ، وما شابه، وفي النهاية كان هناك سيارة حملتها إلى هنا.

سلسلة كاملة من الأحداث التي حدثت أدّت إلى وصول الزهرة إليّ وعليه فهي تتوقف عن كونها ذات وجود بذاتها، وجود صلب كهذا لأنّ الكثير جِدًّا من العوامل تجمّعت مَعًا لكي أحصل على هذه الزهرة.

عندما ننظر كون هي موجودة من الغباء أن نقول بأنها غير موجودة ولكن ربّما ليس بهذا الشكل الصلب كونها موجودة بحد ذاتها.

نظرنا هنا إلى الأسباب التي أوصلتها إليّ. هذه طريقة واحدة للنظر، على السببية التي أوصلتها إليّ. الزهرة هي مثال بسيط ولكن كلّ شيء هو مثلها. حتى ذلك الإنسان الذي يتفوّه بكلمات بذيئة أو ربّما يطرح أفكارًا مشحونة بالكراهيّة وما شابه شيء ما أوصله إلى هناك، ربّما تجربته في الحياة أوصلته إلى هناك.

كانت هناك خلفية أوصلته إلى حيث وصل، إذن هو ليس بحدّ ذاته هكذا بل هو نتيجة. هو ثمرة لكلّ هذه الأمور التي حدثت في حياته حتى تلك اللحظة. هذا توجّه آخر.

توجد هناك توجّهات أخرى، تتعمّق أكثر في هذا التمعُّن في الوجود المتعلّق للظواهر. ولكن في نهاية الأمر كلّها تقود إلى استنتاج بأنّنا نحن أيْضًا وكل شيء من حولنا بدون استثناء، خالين مناي نوع من الوجود بالذات. عندنا وكذلك عند كل ما يحيط بنا كلّ ما يظهر – متعلّق بالأسباب ويأتي بسبب الأسباب – متعلّق بالأسباب ويأتي بالأسباب. وهو غير موجود بشكل مستقلّ غير متعلّق بالأسباب.

لذلك نقول: هو خالٍ من الوجود بذاته. الأشياء خالية من الوجود بذاتها.

هذه صورة واحدة لعرض الفراغ. هم غير موجودين بدون الأسباب والظروف التي تمكّنهم من الوجود، وهم متعلّقون بأشياء أخرى. وهكذا كلّ الأمور الأخرى. وهكذا كلّ الأشياء بدون استثناء.

هذا الوصف الذي أعطيته للتوجّهات المتطرفة التي من جهة أولى تنسب الوجود بذاته للأمور ومن جهة أخرى تنكر تمامًا وجود الأشياء، هذان توجّهان متطرفان وصفهما لنا حكيم كبير اسمه ناجارجونا عاش قبل حوالي 1700 سنة. كان راهبًا بوذيًّا فيلسوفًا لا مثيل له في تألُّقه، كتب الكثير عن الفراغ.

وهو يحذّرنا من الوقوع في هذه التوجّهات المتطرّفة وهم يقول بشكل مفصّل في كتبه بأنّ كلّ مفهوم ومفهوم لنا وكل المفاهيم العادية التي عندنا، كلّ المصطلحات العادية التي عندنا هي مغلوطة. 

من يسمع هذا في المرّة الأولى قد يبدو له ذلك متطرّفًا، ولكنّه يقول، يعلّم ويوضّح لنا بأنّ كلّ التوجّهات والمفاهيم العادية هي مغلوطة وهي لا تفهم في الحقيقة واقعنا. بلا استثناء!

وبسبب كوننا لا نفهم حقا واقعنا ونتفاعل من غير فهم لذلك نسبّب المعاناة لأنفسنا. ويقول أيْضًا: كلّ المعاناة التي نعانيها نحن نسبِّبها لأنفسنا، بدون استثناء.

إذن هذا مثير للاهتمام، وذلك لأنّه يقول لنا: مفاهيمنا مغلوطة ولذلك نحن نعاني  كما يقوا أيْضًا: الآن إذا صححتم الغلط هناك احتمال لأن نتخلّص من المعاناة.

إذن هذا مثير جِدًّا لاهتمامنا. الآن أريد أن أعرف ما هو هذا الغلط الذي نقوم به طيلة الوقت وكيف يمكننا تصحيحه.

والدعوة في تعليم السيد ناجارجونا، هو أن نبدأ بتطوير فهم للطريقة التي تظهر بها الأمور أمامنا. وعندما يتوفّر لنا المزيد من الفهم يمكن أن يكون لنا بمثابة بوصلة من أجل أن نخرج أنفسنا من الحالات التي فيها نتفاعل ونعاني من دوّامات عاطفيّة ومن أسقام روحانيّة من عدم الهدوء من المعاناة.

هذا التدريب أن نبدأ نميّز الطبيعة الحقيقيّة للواقع، يقودنا أيْضًا إلى الإدراك بأنّ الواقع هو ليس حولي فقط بل بداخلي أيْضًا. وهو يقودني إلى حالة وضوح الوعي/ العقل ويربطني بالمكان النقيّ الذي تحدّثنا عنه المكان الموجود بداخل كلّ واحد منّا وهو مكسوّ بكثير من الحجب من الجهل وعدم الفهم.

وعندما نبدأ بشكل تدريجيّ بفتح هذه الحُجُب بواسطة فهمنا، هذا سيقودنا أيْضًا قيل كلّ شيء إلى حالات وعي أكثر هدوءًا وأكثر وضوحًا مع القليل جِدًّا من الصراعات الخارجيّة والداخليّة. 

مثال آخر يعطيه على كلّ هذا على شكل مثَل، وهو قوس قزح.

توجد غيمة ويوجد قوس قزح ونحن ننظر إلى القوس ونقول، ما أجمله وما أجمل ألوانه هيا بنا نمسك به ونضعه في صالون بيتنا. نحاول الاقتراب منه ولكنّنا لا نستطيع الوصول إليه، فهو يبتعد أكثر فأكثر وأنا غير قادرة على الإمساك به، لأنّه ليس ملموسًا. وهو يظهر بشكل معيّن ولكن عندما أحاول أن أمسك به يتضح لي بأنه ليس كما يبدو.

هذا مثال على كيف تظهر الظواهر أمامنا. جميع الظواهر وليس قوس قزح فقط . من السهل علينا أن نفهم المثل عن قوس قزح. ولكن الظواهر هي مثل قوس قزح.

نحن نبحث عن الحبّ لدى شخص معيّن. وأنا أتوقّع الآن أن أشعر بالحبّ وأن أكون سعيدة ولذلك أحاول التشبّث به. يمر الوقت فأكتشف أنّ هذا ليس كما فكّرت. لم نعد متحابين كما كنّا، وهم لا يتصرّفون كما توقعنا. لأن الظواهر كلّها هكذا. عندما نحاول نمسك بها يظهر لنا بأنّ طبيعتها ليست كما ظهرت لنا ليس ملموسا ليس صلبا.

وفي الحالة العادية نكون مصدومين حزينين، في عدد لا نهائيّ من الظواهر التي تحدث بعد بعضها في الإيقاع لقل 65 في الثانية. ظواهر نعتقد طيلة الوقت بوجدها بذاتها ولكن لأيّ منها لا يوجد وجود بذاتها. ونحن طيلة الوقت مأسورين بطغيان مفهومنا الغلط.

توجد عندنا عادة متأصّلة فينا هي الجري وراء هذه المفاهيم التي مغلوطة كلّها. نبحث عما نحبّه ولكنّه ليس موجودًا هناك! لذا عسنا أن نبدأ بالتخلّص رويدا من تمسّكنا هذا الذي يقودنا إلى كثير  من الارتباك

والسيد ناجارجونا وبوذا وكثير من الحكماء وطوال آلاف السنين يقولون: هناك طريقة واحدة لفهم الواقع. توجد طريقة لإبعاد هذا الغلط عن وعينا/ عقلنا. توجد طريقة للعناية بالعقل وهي واضحة وهادئة وفاهمة ومحبّة في الوقت نفسه.

توجد طريقة كهذه. طريقة فيها، عندما نتخلّص من كلّ الجري المجنون وراء الوهم. هذا يوجّهنا ويمكّننا من تطوير حضور. حضور كامل يتمثّل بشكل كامل مع ما هو موجود ومع ما نقوم به.؟ يمكننا أن نكون حاضرين وواضحين مع ما نقوم به وكل شيء ينفّذ بسكينة وسكون ومتعة.

توجد طريقة لنعيش الحياة بهذا الشكل كلّ لحظة ولحظة في الحياة.

وعلينا أن نبدأ الآن   

عدم فهمنا للواقع يمكن أنّ تشمل أيْضًا حول كلّ ما يتعلّق بهذا التدريب الروحانيّ.

ويوجد هنا أيْضًا من هذه المماطلة التي نحن معتادون عليها بشكل قوي جِدًّا في حياتنا. نحن نقول: قبل كلّ شيء عليّ أن أنهي الامتحانات وبعدها أنهي كلّ متطلبات الشهادة وبعدها عليّ أن أنهي تسديد قرض الإسكان (المشكنتا) وبعدها عليّ …  قبل كلّ شيء عليّ أن أفعل هذا كله وبعدها فقط أبدأ بممارسة العمل الروحانيّ.

نحن معتادون على هذا النوع من التفكير ونحن نستوردها إلى داخل تدريبنا الروحانيّ. قبل كلّ شيء أنا أفتح بنفسي هذا وهذا وبعد ذلك أبدأ بالتفكير بالآخرين. هذا خطأ بكل تأكيد.

التدريب الذي ننشد القيام به، هو من لحظة إلى لحظة ومن يوم إلى يوم. نحن لا نؤجّله. نحن في كلّ لحظة نبقى مع قلب مفتوح على مصراعيه. نحن في كلّ لحظة مع الرغبة للوصول بنفسنا إلى الكمال من أجل المخلوقات ونحن طوال الوقت موجّهون نحو جميع الكائنات.

ونعيش الحياة ببساطة وببهجة، من منطلق هذا التوجّه. بغضّ النظر عمّا يحدث في الخارج. نحن نعرف من أيّ فهم ومن أيّ توجّه نصل إلى ذلك وهذا بسيط. ليس ما في الخارج هو الذي يقرر بل مع من نحن نتواصل وكيف نلتقي الأمور – هذا هو الذي يقرر.

وبمجرّد أنّنا نأتي مع هذا التوجّه الهادئ ومع هذا اليقين وهو حول كيف نريد أن نعيش حياتنا، وهذا يبارك أولئك الذين يتواصلون معنا ها نحن بركه للآخرين، حققنا هذا حتى قبل أنّ نخطو خطوة واحدة صغيرة.

 

 

 

 

 

 

سهم

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email

المزيد من المواضيع